نجيب ميكو

أود أن أقر بداية أن ثقافة الموت الداهمة، الحاضرة بقوة في ثقافتنا الدينية ومن تم في أوساطنا الأسرية ومختلف فضاءاتنا المجتمعية، تزعجني جدا. إني أرى فيها مزيجا من الفهم السادج لمغزى الخلق والوجود، ومن الرغبة في امتلاك سلطة التشريع في المصير الوجودي للناس، ومن الإفتاء في ما ليس لنا به علم مطلق، ومن إفساد حياة الناس بالباطل، ومن الالتفاف على سلطة من السلطات الإستثنائية للخالق، ومن الإحباط والفشل الدفين، ومن التفاهة.

لم يخلق الله الحياة الدنيا لكي نقضيها في التفكير في الموت بكل توجساتها وغيبياتها وفتاويها المرعبة. بل خلقها كفرصة، كميزة، كمنحة، كهبة منه لمن اختاره سبحانه لكي يحضى بالتملي والتنعم بها.

أما الموت فقد جعلها الله مجرد معبر يمر منه كل البشر دون أدنى تمييز أو إقصاء أو استثناء، لبلوغ الحياة الآخرة الأبدية التي ليست إلا امتدادا طبيعيا ومنطقيا لاختياراتنا وقراراتنا وسلوكاتنا في الحياة الدنيا التي تفظل علينا بها. وإلا فسيكون كل هذا الذي نحن فيه من صميم وقمة العبث.

لا أنازع بل أقر بأن الموت يجب أن تكون فعلا حاضرة باستمرار في فكرنا الباطن لكي تساهم في توجيه اختياراتنا وقراراتنا وسلوكاتنا. وهي كذلك فطريا بالنسبة للمؤمن والكافر على حد سواء، إذ لا يوجد بيننا في هذا العالم إنسان يجهل مآل الموت حتى ولو لم يكن يؤمن بالحياة الآخرة.

إلا أن الموت يجب أن تنمحي كليا من فكرنا الظاهر لكي نستطيع أن نعيش ونعمل ونشعر ونتدافع ونتكاثر ونأمل ونطمح ونتطلع ونخاطر ونجتهد ونستشرف.

الحياة ليست مبكى جماعي لبني البشر خوفا من الموت ولا قاعة انتظار جماعية للفاشلين ولا مطية ولا ذريعة للهروب إلى الموت من حياة مبتذلة زائفة كما يحلو لبعض تجار الدين نعتها. كيف بها أن تكون كذلك وهي المرحلة التي فيها ومن خلالها يقرر الإنسان شكل ومكان ومآل حياته الآخرة؟ إن لها إذن من الجدية والأهمية والإعتبار ما ينأى بها عن العبث والتفاهة والتبخيص.

مما يستوجب التوضيح والتأكيد أيضا على أن التقابل ليس مطلقا بين الحياة الدنيا والموت كما هو مشاع بين الغالب الأعظم من الناس بل بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة ما دامت الموت ليست إلا معبرا من هذه الضفة إلى تلك.

فلنعمل على إنتاج ونشر الفكر الإيجابي عن الحياة بين الناس وفي المجتمع حتى تحل قيم الإرادة والمسؤولية والتدافع والطموح والأمل والمخاطرة والتوكل محل قيم القدرية والخنوع والإحباط والإنهزام والتواكل. حتى تحل ثقافة الحياة محل ثقافة الموت.