نجيب ميكو: إعداد قانون مالية تعديلي له تكلفة زمنية قد تشكل عائقا أمام السير السلس الذي يقتضيه الظرف الحالي

كورونا، أو القوة القاهرة كما يسميها رجال القانون، أحدثت رجة كبيرة في كل المجالات، وخلخلت الموازين اجتماعيا واقتصاديا، وأعادت دوران العجلة إلى نقطة الصفر. حاليا الاقتصاديات عبر دول المعمور، منهمكة في مراجعة الترتيبات، أول بأول، واضعة جانبا كل التوقعات والمقترحات التي كانت مرجعا لها قبل الجائحة. دعوة حزب الاستقلال للحكومة إلى تعديل قانون المالية في أقرب وقت، تأتي في هذا السياق، حيث شددت اللجنة التنفيذية للحزب في بلاغها الأخير على هذا المبدأ، وذلك بالنظر إلى تغير الفرضيات والتوازنات الاقتصادية والمالية التي بني عليها قانون مالية 2020، مع ضرورة إعادة تحديد أولويات السياسات العمومية، وإعادة هيكلة قانون المالية، من أجل الحفاظ على الشغل وعلى القدرة الشرائية للمواطنين، وعلى سيادة القرار الاقتصادي والعمل على خلق فرص شغل جديدة بوضع برنامج وطني للأوراش الوطنية ذات المنفعة العامة

في المقابل هناك قلق كبير في أوساط الخبراء والاقتصاديين بشأن تأثير الفيروس على الاقتصاد المغربي على المدى المتوسط والطويل؛ تضررت معه كل القطاعات، بما في ذلك الفلاحة والسياحة، القطاعين الاقتصاديين الرئيسيين في البلاد. بحيث يعاني القطاع الفلاحي أصلا هذه السنة من الجفاف، كما عطل كورونا بالمرة حركية قطاع السياحة، ويمكن لذلك أن يمتد حتى سنة 2021. أما قطاع التربية والتعليم، فتغيرت ملامحه بالكامل، تحول هذا القطاع الحيوي والاستراتيجي من المباشر إلى تعليم عن بعد. الصحة وهي القطاع الذي يحتاج في هذه الآونة إلى ضخ احتياطي مالي مهم، لأن كورونا أبان عن استراتيجية والدور الأساسي لهذا المجال الذي هو الآن في الواجهة لمجابهة الوباء في أفق التخلص منه

في هذا الإطار، يري نجيب ميكو، الخبير الدولي في الدراسات الاستباقية والإستراتيجية والاقتصادية والمالية والاجتماعية، أن الحكومة ستتوجه لا محالة نحو إعداد قانون مالية تعديلي رغم ما يستلزمه هذا الإجراء الضروري من تدابير قانونية وديموقراطية لا محيد عنها ورغم تكلفتها الزمنية التي يجب أن تتظافر جهود كل الأطراف من أجل تقليصها حتى لا تشكل عائقا أمام السير السلس الذي يقتضيه الظرف الحالي بشكل خاص

وأضاف ميكو، أن إعطاء صلاحية التحكيم والتصرف في المصاريف مؤخرا من طرف الحكومة للسيد وزير الاقتصاد والمالية ليس في نظري إلا إجراء انتقالي من أجل ضمان السير العادي لمرافق الدولة وكسب مزيد من الوقت لكي تتضح الإجراءات والقرارات والتحكيمات التصحيحية أو الجديدة التي تنوي الحكومة تفعيلها. فقليلا إذن من التروي لأن قانون مالية تعديلي آت لا ريب فيه. وأما ما يمكن للحكومة أن تقدمه كتعديلات لقانون المالية، فإن الخبير الدولي يميز بين ثلاث محاور متقاطعة ومتكاملة فيما بينها:

أولا، إعادة النظر في ميزانية مصاريف التسيير ليس برؤية تقشفية غير ذات فعالية، بل بمقاربة براغماتية تساير خصوصية الظرف الحالي الذي لن يغفر لأي كان أن يجعل الدولة تصرف في غير الأولويات القصوى التي تضمن السير الضروري والفعال للمرفق العمومي. هذا علاوة على الانخفاض الكبير لسعر البترول الذي كانت الميزانية قد حددته عند إعدادها في مستوى 75 دولار وهو اليوم عند مستوى 25 دولار وليس هناك أي مؤشر يمكن أن يدفع به لأكثر من 40 دولار خلال السنتين القادمتين بإجماع كل الدراسات الاستباقية الرسمية على المستوى الدولي مما سيكون له أثر إيجابي لا يستهان به على مصاريف الدولة وعلى مخزون العملة الصعبة خلال الأشهر السبعة المتبقية من السنة المالية الحالية. ويرى في هذا الإطار أن نسبة تخفيض ميزانية التسيير يمكن أن تصل دون أي عناء إلى مستوى 25% شريطة أن تتحلى الحكومة بالحنكة والصرامة والمسؤولية الكافية لكي لا تنساق في تطبيق نسبة تخفيض أفقية على كل القطاعات. علما بأن القطاعات الحيوية التي تشكل اليوم القاعدة الأمامية لتدخل الدولة في حربها الضروس ضد أزمة كورونا بمختلف أشكالها، لن تكون معنية بهذا التخفيض بل يجب أن توفر لها كل الوسائل، أقول كل الوسائل، لكي تضطلع بمهامها النضالية على أحسن وجه ودون التوقف عند أدنى اعتبارات بيروقراطية مرفوضة ومنبوذة اليوم

ثانيا، أن تتم نفس المقاربة بالنسبة لميزانية الاستثمار بشقيها المتعلقين باستثمارات الدولة والمؤسسات العمومية على حد سواء. يجب أن يسحب من هذه الميزانية كل ما لا يدخل في إطار استكمال استثمارات انطلقت سابقا أو استثمارات جديدة لها من الحيوية ومن المردودية الآنية ما يبرر الاحتفاظ بها. وهنا أيضا يمكن أن يصل مستوى التخفيض إلى نسبة 35% من الميزانية الكلية للاستثمارات العمومية دون أي إرباك للحاجيات الاستثمارية للدولة ولمؤسساتها التابعة

ومن شأن هذين التخفيضين ليس أن يقللا من فعالية الدولة التي نحن اليوم في أمس الحاجة إليها أكثر من أي وقت مضى، بل بالعكس أن يسمح للدولة بإعادة انتشار وسائلها المالية بهاجس أكبر من الفعالية في تحديد الاوليات ومن المردودية في تخصيص المال العام في الضرف الاستثنائي الحالي

ولعل هذه الممارسة لمن شأنها أن يكون لها النفع الكبير على تدبير مالية بلدنا خلال المقبل من السنوات حيث سنكون قد استفدنا أيما استفادة من الوضع المتأزم الراهن لعقلنة مصاريفنا وملاءمتها مع حاجيات بلدنا الفعلية، كما وضمان تنافسية مرافقنا العمومية، خاصة وأنه من الواجب التذكير هنا أن مصاريف الدولة قد ارتفعت خلال السنوات العشر الأخيرة بشكل غير مقبول وبدون أدنى مبرر لذلك

وأكد ميكو أن يسمح للدولة بأن تجلب مداخيل جديدة سواء بشكل مباشر لميزانيتها العامة أو بشكل غير مباشر لصندوق تدبير أزمة كورونا، وذلك من خلال الاقتراحات التالية:

أولها، العمل على الاستدانة من الاتحاد الأوربي عبر الاستفادة من قروض متوسطة وبعيدة المدى ذات نسبة الفائدة السالبة المعمول بها اليوم بين دول الاتحاد وذلك بضمانات أساسا من طرف شريكينا الاستراتيجيين في الاتحاد فرنسا وإسبانيا، وذلك لتمويل استثماراتنا ذات الفعالية والراهنية والمردودية المؤكدة على المدى القريب

ثانيها، الاستدانة من البنك الدولي في إطار تمويلات ما يسمى ب “حقوق السحب الخاصة” (Droits de Tirages Spéciaux) التفضيلية لتي يمنحها البنك في ظروف مماثلة دون نسبة فائدة وعلى المدى البعيد، وذلك لتمويلاتنا الاستثمارية الحيوية ذات الآنية والمردودية الفعلية والقريبة المدى، على ألا يصاحب هذا القرض من طرف البنك الدولي أي شرط من شأنه التدخل في سيادة القرار الداخلي لبلدنا ما دامت أنها لن تخصص مطلقا لميزانية التسيير.

ثالثها، ضمان الدولة للمؤسسات العمومية والخاصة الكبرى في السوق المالية الدولية بمختلف الآليات المتاحة من أجل الاستدانة المباشرة لتمويل استثماراتها الإستراتيجية المصادق عليها من طرف الدولة

رابعا، طلب هبات من الصين والاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية ودول صديقة وشقيقة أخرى من أجل دعم قطاعنا الخاص المتضرر، والذي هو في حاجة إلى تمويلات مستعجلة وضخمة من أجل استعادة عافيته وديناميته

خامسا، لجوء الدولة للاقتراض الوطني بنسبة استثنائية لا تتعدى نسبة التضخم، وإلى الاكتتاب العمومي لإنشاء شركات استراتيجية جديدة تفرضها الأوضاع الراهنة وللدخول في رأسمال شركات استراتيجية خصوصية تعاني من الخصاص في التمويل

سادسا، استمرار فتح المجال لهبات طوعية وطنيا ودوليا بما فيها هبات ومساعدات منظمات دولية متخصصة وذلك لتمويل مشاريع وطنية كبرى في بلادنا كتصنيع العالم القروي وتشجير ملايين الهكتارات من الغابات وفك عزلة العالم القروي وتجهيزه ببنيات الكرامة وتجهيز الطرق السيارة المائية وتجهيز مختبرات البحث العلمي وتحليل الدم … إلخ

سابع، استنهاض الحس الديني والتضامني لدى المغاربة الميسورين بإقرار صرف “الزكاة الآن للوطن” في صندوق تدبير جائحة كورونا من أجل تمويل الخصاص الاجتماعي بكل أبعاده

على أن تتم مرافقة كل هذه التدابير التي من شأنها أن تدفع بقوة بعجلة النشاط الاقتصادي بشقيه الإنتاجي والاستهلاكي، وتخول لبلدنا أن يستفيد من الدينامية التي تعدها أسواقنا الدولية الأساسية للشهور القادمة بضخ آلاف الملايير من الدولارات في اقتصادياتها من أجل أن تستعيد حيويتها وقوتها، بالتدابير المصاحبة والأساسية التالية:

أولا، أن يخفض بنكنا المركزي من نسبة الفائدة إلى 1% وأن يتخلص السيد والي البنك من عقدة برنامج التقويم الهيكلي التي تقض مضجعه وتجعله يجتر في كل مناسبة ما أصاب المغرب حينها

ثانيا، أن يتم إعداد برنامج استثماري وتمويلي محكم وواضح لكل قطاع على حدى بإشراك فعلي لممثلي المهنيين، كل المهنيين الكبار والمتوسطين والصغار لكل القطاعات الاقتصادية، والأبناك حتى نضمن أن يذهب الجهد المالي نحو القطاعات الاستراتيجية الجديدة والقديمة التي تحظى بالأولوية وبالمردودية السريعة والمضمونة

ثالثا، أن يتم التنسيق المحكم مع لجنة إعداد النموذج الاقتصادي حتى ينخرط البرنامج الاستثماري والتمويلي السالف الذكر في البرنامج التنموي الجديد

رابع، أن يعمل المغرب بكل السبل على المحافظة على الوهج الحالي المنقطع النظير الذي تلهبه ثورة ملك وشعب جديدة، تحت القيادة المباشرة والفعلية لجلالة الملك، حتى يتم الاستمرار في تدبير المرحلة وإنجاز كل المشاريع، أقول كل المشاريع، في نفس الأجواء النضالية والتضامنية الحالية التي أبهرت وطمأنت وأسعدت كل المغاربة قبل ان تبهر العالم برمته، وإلا فسينفلت كل شيء ولن يتحقق أي شيء