بقلم نجيب ميكومع بداية شهر رمضان المبارك، أجدني في “حديث مع الروح”، أغور من خلاله في أسئلة كبرى تشدني من ضحالة ماديات وإكراهات الحياة اليومية، إلى سمو روحانيات أسرار الوجود. إن قراءاتي المتعددة والفضولية المتمحصة في الرسائل السماوية، تجعلني أستقر إلى كون هذه الكتب المقدسة المنزلة، تمرر لنا مسلمة واحدة أوحدة وأسرارا أربعة كبرى، هي حلقات متداخلة فيما بينها، تشكل سلسلة متراصة لبناء رباني شامل ومنسجم. المسلمة الواحدة الأوحدة، تكمن في أن الله لم يخلق الإنسان عبثا بل لكي يعبده. ومن تم فقد خلقه عاقلا لكي يكون قادرا على إدراكه وعبادته، إذ لولا إدراك الإنسان لله، لكان سبحانه وتعالى موجودا من الأزل إلى الأبد، ومدركا لذاته بذاته دون من يدركه، ولما حصل كل ما ترتب عن خلقه للإنسان من حياة فانية وموت وحساب فحياة أبدية، كآثار على وجود الله وإدراكه من خارج ذاته. أما الحلقات الأربع المتداخلة فتكمن في :

1- “حلقة وحدة الخلق”، ذلك أن الله وإن خلق الإنسان شعوبا وأمما، فإنه يخاطبه في وحدته وشموليته، وليس في تعدده وتنوعه. إذ لا يفرق بين كل خلقه بأنواعهم وألوانهم وأجناسهم وأشكالهم وأعراقهم وأمكنتهم، بل فقط بمستوى عبادتهم له، ومن تم فإن كل الرسائل التي بعث بها هي :أ- رسائل للإنسان، كل إنسان، في وحدته وليس في تفرقه واختلافه.  ب- رسائل تراكمية متكاملة فيما بينها لا تنقض بعضها البعض، بل يرتكز اللاحق منها على السابق.ج- رسائل وإن استرسلت وتعددت عبر الأزمان، فهي تسوق لديانة واحدة أوحدة، حملها وبلغها كل الأنبياء والرسل دون أدنى استثناء، منذ إبراهيم عليه السلام الذي كان أول المسلمين، إلى محمد صلى الله عليه وسلم. فاليهودية والمسيحية والرسالة المحمدية، هي تراكمات مكملة لبعضها لدين إلهي واحد أوحد هو الإسلام، وليست مطلقا ديانات سماوية مختلفة. بل إن الإنسان لا يعد مسلما، إلا إذا آمن بموسى وعيسى ومحمد وباقي الأنبياء والرسل معا وكليا. د- رسائل تحمل في طياتها التلقين والإخبار، تلقين الإنسان طرق عبادة الله مادام أنه خلق لذلك، وتلقينه سبل العيش والتعايش كشكلين من الاستمرار في الوجود والعبادة خلال مرحلة الحياة الفانية، وإخباره بسيرورة الجزاء في مرحلة الحياة الأبدية. 

 2- “حلقة حرية التعبد”، كأسمى تعبير عن كون الله وإن خلق الإنسان ليعبده فإنه لا يكرهه على عبادته، إذ هو مخير وليس مسير. ومن هذا المنطلق، فإن دور الله في حياة الإنسان ليس مطلقا، دور الذي حسم مسبقا وبمحض إرادته المتفردة في مساره لكي يختزل دوره في مجرد مرور عرضي في حياة مصممة كليا وقبليا، بل هو دور الموجه والسند والمؤنس والمدعم والمشجع والمواكب والرفيق في كل الأحوال.وعلما بأن الله عالم بعلم مطلق، فإنه يعلم في سابق علمه دقائق وجزئيات التصرف الحاضر والمستقبلي لكل إنسان دون أن يكون هو المحدد لهذا التصرف، على أن كل تصرفات الإنسان هي مدونة قبليا في سجل الله سبحانه وتعالى، دون أن تكون معلومة عند المعني بها لكي لا تختل الحياة في الأرض. 

 3- “حلقة الحساب على التعبد”، كنتيجة منطقية وحتمية، لكون الإنسان خلق لعبادة الله، ولكونه مخير في هذه العبادة.ذلك أنه من حيث كونه مخير فإنه سيحاسب على عمله، وإلا ما عساه يكون معنى ومنطق الحساب والجنة والنار، لو أن الإنسان كان مسيرا.ومن هذا المنطلق فإن كل الفرائض وكل العبادات والدعوات والتضرعات، لم توضع من أجل الإكراه على الإيمان بالله، بل كفرص متكررة إما يوميا أو دوريا أو مرة في العمر، وهبها الله للإنسان كوسيلة طبعا لعبادته والتقرب منه اختياريا، ولكن أيضا  لمحو الخطايا وكسب الحسنات بالنظر لضعفه وكثرة معاصيه، حتى يتيسر يوم الحساب وتكون النتيجة في الحياة الأبدية في مستوى تطلعه. 

4- “حلقة العدل الإلهي في الحساب”، التي يمارس فيها الحق سبحانه عدله المطلق بين عباده دون ظلم ولا جور ولا تمييز، إلا أن صلاحيات الله المطلقة، لن تأخذ فقط شكل هذا العدل المطلق الصارم الذي لن يعصم الإنسان منه أي حصن من أي نوع كان، بل سيمارس الله سبحانه استثناءات لا حدود لها في محاسبة خلقه.وقد أطلعنا النبي محمد على هذه الاستثناءات الربانية، من خلال معجزة الإسراء والمعراج التي رفع الله فيها عن رسوله حجاب غيب يوم الحساب، فانكشفت رحمته تعالى التي لا حدود لها، حتى يكاد يحسب الإنسان أن النار لم توجد إلا للترهيب في الحياة الدنيا، وأن الجنة ستكون  مأوى الأغلبية الساحقة من الخلق مهما عظمت الخطايا ما عدا الشرك بالله. إنني بقدر ما أقر أنني لست متفقها في الدين، فإنني أقر بالمقابل من خلال تفعيل آليات المنطق السليم في سبر أغوار الوجود، أن قراءتي هذه ليست مطلقا بريئة. إنها تتوخى من بين ما تتوخاه تمرير خطابات ثلاث، لا تقل أهمية عن معادلة الوجود نفسها، إن لم أقل إنها من صميم الوجود ذاته. 

أ- الخطاب الأول: يكمن في وجوب أن يكف من يعتبرون أنفسهم مسلمين، عن اجترار أن الإسلام هو ملك للمسلمين وحدهم، وأنهم خير أمة أخرجت للناس، وأنهم المعنيون الوحيدون بالجنة، وأن يكف فقهاؤهم الرسميون أو المنتحلون الكثر لهذه الصفة، عن اعتبار أنفسهم هم من يوقعون ويوزعون صكوك دخول الجنة على الناس، من خلال استنتاجات وأحكام تستثني إرادة الله التي لا علم للخلق بها. إن الإسلام هو ملك ودين كل مؤمن بالله، والتشبث به والحرص عليه لا يكمن في تسييج العالم الإسلامي بأسوار العصور الوسطى، وتكفير كل من وراء هذه الأسوار بل وإعلان حرب حضارية عليه.إن هذه المقاربة التي حاصرنا أنفسنا فيها منذ بضعة قرون، هي من تسيء للمسلمين وتطوقهم وتجعلهم أعداء الأمم الأخرى، وتخندقهم في موقف دفاعي على الدوام، وتتركهم في مستوى مخزي من الأمية والجهل والتخلف والفقر، رغم أنهم يملكون كل أسباب الغنى التي لا تعد ولم يسبق لها مثيل منذ الخلق الأول. في الوقت الذي نرى أن سلوكات ونجاحات شعوب أخرى مؤمنة بالله، هي من صميم السلوكات التي يدعو لها الإسلام الحقيقي.   إن المسلمين من أمة موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، هم في حاجة إلى تكسير الأسوار بينهم وتعويضها بجسور التعايش وعولمة قيم الدين الواحد المشترك، حتى وإن اختلفت تعبيراته وتفعيلاته التي يجب احترامها من لدن كل الأطراف عوض الحكم عليها، حتى يستطيعوا معا بناء السلام، ويخصصوا ما يجب من الجهد والوسائل، لحمل أكثر من نصف بشر الكرة الأرضية الذين ينكرون وجود الله، أو يعبدون مقدسات دونه، على تبين وجود الله، وتلقين عباداته الطوعية، والتخبر بيوم الجزاء والرحمة الربانية التي لا حدود لها. إن إله الإسلام، ليس إله ترهيب وحروب واقتتال وإقصاء وذل ومسكنة وفقر في الدنيا، وتعويض لأمة النبي محمد عن حرمانها وتخلفها في الدنيا بالحور العين والماديات التي لا تنضب في الجنة وزج ما دونها في النار. إن إله الإسلام، هو إله التسامح والتعايش والنجاح والنصر والاجتهاد والتقدم والعلم والغنى والتواضع والبساطة والرحمة ثم الجنة. 

ب- الخطاب الثاني: يكمن في كون الله سبحانه وتعالى من حيث كونه إله الإنسانية جمعاء دون أي تفريق أو تمييز، ومن حيث كونه أمد الإنسان بالعقل والقدرة المطلقة على اختيار وضعه ومساره، فإن التخلف والفقر ليسا لا قضاء ولا قدرا فرضه على أمة دون أخرى أو بلد دون آخر، إنه تعالى براء من كل هذه الأوضاع المذلة للكرامة البشرية التي يمدنا بتوجيهاته الربانية، من خلال تعاليمه السمحة لعدم السقوط فيها.يجب أن نكون مقتنعين أشد اقتناع، أن اليابانيين أو الأمريكيين أو الألمان، ليس لهم مخ أكبر ولا تكوين جيني مغاير، إنهم بشر ككل البشر، ولكن برؤية ثاقبة، وطاقة خلاقة، وإرادة قوية، وقلب ينبض بالخير ولفعل الخير لصالح كل المجتمع، وثقة في النفس، وتواضع لا يضاهيان. ج- الخطاب الثالث: يكمن في كون الإنسان من حيث كونه عاقل ومخير وفاعل في حاضره ومسار حياته، فإنه ذو قدرة لا حدود لها، إلا ما حجبته عنه رداءته وتفاهته وبداءته وسوء نيته، على التأثير في سلوكه من أجل جعل واقعه ومستقبله في مستوى طموحاته وتطلعاته.كفى إذن من رمي المسؤولية على الآخر، أو انتظار أن يتغير العالم برمته قبل أن نغير ما بأنفسنا كشرط قبلي لكي تتغير أحوالنا.