محاولة سبر مغزى ليلة إستثنائية تعدل عمرا بأكمله

نجيب ميكو

يزخر الضمير الجمعي المسلم بالتفسيرات لمغزى وموعد ليلة القدر المباركة ذات الحمولة الدينية والوجدانية الوازنة، ويكاد يستقر على أنها الليلة التي تكتب فيها الأقدار من جديد.

أود اليوم أن أخوض في هذا الموضوع ذي الرمزية الخاصة لدى كل المسلمين، مساهمة مني في النأي به عن كثير من التمثلات التي تزج به زجا في غياهب الوهم والشك والجهل.

أؤكد أولا أن مثل ليلة القدر كمثل سحابة من نور محملة بغيث المغفرة تطفو بإذن ربها على كل العالمين لتسقي الداعين التائبين. فهي ليلة واحدة أوحدة ولكنها تصل في نفس اليوم تتابعا لكل منطقة متى حل ليل أصحابها.
وأؤكد ثانيا أن الأقدار لا تكتب من جديد في هذه الليلة ولا في أي ليلة أخرى مادامت أنها محسومة مقررة مبرمجة في سابق علم الله سبحانه وموثقة في سجلات الرحمن منذ أول أن خلق الإنسان.
فالله عز وجل عالم بذاته منذ الأزل وإلى الأبد، لا يغيره أي حادث ولا أي شيء. وإلا فسيكون الحق سبحانه وتعالى متجدد العلم بفاعل خارج عن ذاته وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

إلا أن هذه الأقدار وإن كانت ثابتة بسبب علم الله المسبق بفعل خلقه قبل قيامهم به، فإن إرادة الخلق تتقوى وتتأكد من خلال معطيين جوهريين :
• أن الإنسان ليس له أي علم بقدره ومن تم فإنه لا يتصرف بناء على أنه معلوم لديه ما دام أنه يجهله كليا،
• أن الله سبحانه وتعالى وإن كان يعلم بسابق علم أقدار خلقه فإن انتقال هذه الأقدار من القوة إلى الفعل، من الغيب إلى المدرك، هي من محض اختيار ومسؤولية العبد.

إلا أن حدث ليلة القدر وإن كانت لا “تزمم” فيه الأقدار في تجدد سنوي مستمر كما يدعي عامة الناس، فإنه يبقى مع ذلك موعدا استثنائيا بين العبد وخالقه يمكن أن يتغير فيه وضعان جوهريان :
• ذنوب العبد التائب الملح في طلب العفو في هذه الليلة المباركة، التي يمكن لله عز وجل أن يمحوها جميعها استجابة له، بل يمكنه سبحانه أن يبدل كل سيئاته حسنات، وفي هذا وذاك عتق من النار،
• شيء يطمح إليه العبد فيدعو ربه دعاء صالحا ملحا في هذه الليلة المباركة، فيستجيب له الحق سبحانه متى تعلق هذا الشيء بقضاء معلق إذ لا تبديل لأي قضاء مبرم، وإلا فستعم الفوضى والعبث في كون يحكمه نظام إلهي مضبوط يضمن تناغمه واستمراريته. فالمستهدف بالدعاء إذن ليس رد القضاء بل اللطف فيه.

وهكذا فبالدعاء يبارك الحق سبحانه في عمر عبده أو ييسر رزقه بعد عسر أو يوجهه إلى طريق الخير بعد تيه أو يهون عليه آلام ومشاق الدنيا …إلخ.
والتأكيد هنا على أن يكون الدعاء صالحا مرده لكون الله سبحانه وتعالى قد حرم الظلم على نفسه ومن تم فإنه لا يستجيب أبدا لدعاء من عبد يريد به إلحاق الأذى بعبد آخر مهما ألح وسجد وأيا كان ذاك العبد.

وهكذا فالعبد الذي أدرك ليلة القدر وارتقى إلى سموها مؤهل لأن يفوز بالعتق من النار واستجابة الدعاء وهو ما يمكن ألا يناله أحد طوال حياته وإن امتدت إلى ما يناهز 84 سنة مما نعد أي الألف شهر المذكورة في القرآن.
ومثلما أن العبد يقضي ليلة القدر داعيا ملحا بين يدي خالقه عساه يستجيب له فالمطلوب من هذا العبد في نفس الآن وخلال هذه المناجاة مع خالقه، أن يعفو هو بدوره عن كل من ظلمه وأنه يدعو لكافة الناس بالخير.

فاللهم يا ذا القدر العظيم بلغنا ليلة قدرك وامنن علينا فيها بشامل عفوك وكامل مغفرتك وجزيل عطائك ومنتهى لطفك، عفوا ومغفرة وعطاء ولطفا على قدر قدرك وقدرتك يا من قدره أنه هو الله ويا من قدرته في قوله كن فيكون، بقدر عظمة لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.