جاهل يثوق لتدبر قواسم الصلاة والمعاملات بين كل البشر

أعود ثالثة في هذا الشهر المبارك الكريم الذي تنشد فيه الأرواح والخواطر بلوغ مرضاة الله، إلى أن أستأذن أهل الفقه الأجلاء بأن أغوص من جديد فيما ليس لي به علم، طالبا منهم التفهم وسعة الصدر إزاء جاهل ينتشي باعتمال مجرد فكره ومنطقه الخاص في سبر واقتناص سبل الوصول إلى الله،  شفيعي في ذلك قناعتي الراسخة القائمة على واقع معاش، بأن الإرتقاء إلى حضوة الله لا يكتسب حتما بعلم ولا بجاه ولا بنسب، إذ إذا أراد الله أن يكشف لك عن بضع من أسراره مكنك منها وأنت في ظلمات جهلك الدامس، مثلما أنه سبحانه إن أراد أن يظهر فضله عليك خلق ونسب إليك. “رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ”.

الحديث إلى الله ومع الله لمعرفة الله وللطمع في تملك أسرار مفاتيح الوصول إلى الله، ليس حكرا على أحد ولا ملكا استثنائيا لأحد ولا مخولا لأحد بوراثة أو بعلم أو بصك تدين أو  بوساطة من أحد. إنه ذاك الانشغال بالله والإقبال على الله والإنصهار في ملكوت الله هو الذي يوصل إلى الله.

إن من غريب المفارقات أن القاسمين المشتركين بين كل المعتقدات، وإن حاولت تضليلنا أو حجبهما عنا كل اختلافاتها الظاهرة من طقوس وشعائر وضوابط، لهما أمران أساسيان محوريان : الصلاة والمعاملات.

أولا “الصلاة” التي هي ذاك التسبيح والتقديس والدعاء الموجه من طرف الإنسان لخالقه، إذ إذا كان كل ما خلق الله في الكون يسبح لله عن بداهة وتلقائية وعفوية بل وسليقة وغريزة “ولكن لاتفقهون تسبيحهم”، فإن الإنسان المسبح بحكم أنه عاقل، يفعل ذلك بإرادة واختيار منه ليس فقط للتعبد خوفا منه سبحانه ولكن أيضا طمعا في فضله وكرمه. 

والقاسم المشترك بين كل الناس في الصلاة ليس أبدا في كونها مفروضة، بل لأنها لحظة رحلة وارتقاء ولجوء إلى الله يجتمع فيها التطهر والمناجاة والدعاء والرجاء والخوف والطمع والخضوع والضعف والطلب والشكوى والحديث والخوف والحوار والحب والإرتكان في حميمية وسرية مطلقة لله وإلى الله ومع الله. 

كل البشر هكذا، كل من يصلي في كل بقاع العالم على اختلاف وتعدد طرق ممارستها هو هكذا، حتى ولو لم نكن نصلي لإله واحد.

فمن أراد إذن أن يكلم الله فليبادر للصلاة ومن أراد أن يكلمه الله فليبادر للصلاة، مثلما أنه من أراد أن يقطع حبل تواصله مع الله فليترك الصلاة. إلا أن الصلاة ليست مجموع حركات ولا سرد كلمات تؤدى من قبيل الواجب الشكلي الآلي للحفاظ على حبل اتصال ما، يلوذ له الإنسان المحتاج إلى خالقه عند الاقتضاء. 

“إنها لكبيرة إلا على الخاشعين” الذين يتهيأون روحيا بما يفرضه واجب وقدسية موعد الوقوف بين يدي الله للحديث إليه ومعه سبحانه. 

ومن باب الترويح والبسط النافع ولو في شهر ومقام الجد اللذين نحن هنا فيهما وبصددهما، رأى قيس كلب ليلى فأسرع وراءه ليدله على مكان حبيبته، فمر في طريقه بقوم يصلون ولما رجع مر بهم فسألوه : “قد مررت بنا ونحن نصلي فلم لم تصل معنا؟” قال “والله ما رأيتكم، ووالله لو كنتم تحبون الله كما أحب ليلى لما رأيتموني، كنتم بين يدي الله ورأيتموني وأنا كنت بين يدي كلبها ولم أركم، أعيدوا صلاتكم يرحمكم الله”.

إن من الناس من يرتجف ويرتعد  ويلبس أحسن الثياب ويتطيب بأغلى العطور لمجرد موعد مع عبد من عباد الله لحاجة لديه في عمل أو مكانة أو كسب أو مشاعر، فما بالك بموعد مع الله. 

والخشوع في الصلاة ليس فقط تعبيرا عن خشية الله، بل إنه السلم اللامادي للإرتقاء الروحي إلى حضرة الله من أجل تكليمه فيما نريد، في تحلل من الأنا وتذلل وتأدب وبساطة ودون أي وساطة ولا تدخل، وإلا فلا جدوى من الصلاة ولا استجابة يمكن أن تنتظر منها.

ثانيا “المعاملات” التي هي ميدان اختبار سلوكات الناس فيما بينهم وفي محيطهم وبيئتهم، التي تحضى بالنصيب العظيم الأوفر في جهد بلوغ حضوة الله والتي تختصها كل الأديان بالأهمية القصوى لدرجة أنها ارتقت لدى شعوب عديدة إلى مستوى قيم إنسانية ترنو إلى عولمتها.

ومن تشكلاتها التواضع والبساطة والكد والصبر والتقوى والتصدق في السراء والضراء وكظم الغيض والعفو عن الناس والإحسان للناس وإماطة الأذى وعدم قتل النفس ظلما وترك المن والفاحشة واللغو والكذب وشهادة الزور والمال الحرام والهدم لتوازنات الكون والإنفاق في حاجيات الدنيا بإقتار أو بإسراف “وكان بين ذلك قواما”.

 وهذا ليس إلا بدل بعض من كل المعاملات الراقية التي تحمل قيمها كل الأديان كتعبيرات عما يريده الخالق من سلوكات يجب أن تحكم العلاقات بين عباده البشر حتى يأخذ بعضهم بيد بعض ولا يتظالموا ولا يتحاقدوا ولا يتنابزوا. 

هذه في نظري هي مغازي ومقاصد الصلاة والمعاملات كقاسمين مشتركين بين معتقدات معظم البشر، يعبرون عنها بلغات وقدرات وسلوكات مختلفة لبلوغ هدف واحد هو التودد إلى الله بغرض امتلاك أسرار مفاتيح عطاءاته، كل عطاءاته.

مثلما أن سبيل الوصول إلى حضرة الله في النهاية، واحد أيضا ومشترك بين بني البشر. إنه طريق معبد لا يبلى أبدا، ومشرق بالأنوار لا تلحقه ظلمة أبدا، وشاسع لا يناله إكتضاض ولا مراقبة سرعة ولا أداء مرور ولا ميز ولا قرابة ولا حق أسبقية أبدا، ومفتوح على مشراعيه للجميع على الدوام وفي كل الأوقات لا يغلق أبدا، كل يسير فيه حسب ما يريد الهجرة إليه وعلى قدر وثيرته. 

أما الدخيرة والزاد لولوجه فيتأرجحان بين زوجي القول والعمل : “قول” يتجلى في علاقة ثنائية مباشرة وبسيطة بين العبد وربه من خلال التسبيح والدعاء والإستغفار، و”عمل” يتجلى في علاقة متعددة الأطراف ومعقدة بين الشخص وسائر بني جلدته ومحيطه وبيئته من خلال التواضع والصبر والإحسان والتقوى والإستقامة.

وإن نعت الله سبحانه الصلاة بوصف أنها “لكبيرة” فإن أقل وصف للمعاملات هو أنها إما “حطب جهنم” وإما “جنة الخلد”.

إن من بلغ حضوة الله فهو في حضرته ومن كان في حضرته فليطلب ما يريد، كل ما يريد، فإنه سبحانه سيفاجئه بأكثر مما يريد، بكرم على قدر قدرته ورحمته وعزته المطلقة سبحانه، التي لا يسعها بال بشر ولا يحدها زمان أو مكان ولا يعجزها أي شيء. 

فليتنافس المتنافسون في حلبة الصلاة والمعاملات وليكن المطلوب الأسمى رؤية وجهه العظيم لأننا عبدناه وخشيناه وأحببناه دون أن نراه فلن نرض وهو القادر المطلق على كل شي، بأقل من أن نراه.