جاهل يثوق لتدبر سر الله في خلقه
تتملكني في هذه الأيام الرمضانية الربانية العطرة، التي تشرئب فيها أعناقنا جميعا للسماء طلبا في رفع ما حل بنا من بلاء، شخصية السيد الخضر الذي احتارت واختلفت القراءات والتفسيرات بشأن شخصيته التي جاءت في القرآن الكريم، في تصنيفه هل هو نبي أو ملك أو فقيه أو مجرد عابر سبيل فوق العادة.
ولا أخفي أن شخصية “الرجل”، قد استوقفتني كثيرا أنا الإنسان المتواضع الجاهل بخبايا وأسرار وحكم مجمل ما أتت به مختلف الكتب السماوية، لعظم ما حملته للإنسانبة هذه الشخصية العابرة، من بلاغات وعبر ومعاني تشكل لوحدها جوابا على كثير من أسرار وجودنا وعلاقاتنا بالسماء وحياتنا بعد الموت.
“رجل” حل بيننا لمجرد لحظة وسط آلاف سنين التواصل بين الأرض والسماء، لكي يبوح لنا بإجابات وجودية ذات ثقل عظيم، ثم ينصرف من حيث أتى.
السيد الخضر بالنسبة لي، هو نبع من نور الله، هو كلمة الله لخلقه التي تحمل رسائل عديدة، أجرؤ على جمعها في أربعة ركائز مؤسسة كبرى :
1- أن فوق كل ذي علم عليم فما بالك بعلم الله المطلق. لقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يبين لرسوله موسى الذي كان يعتبر أن لا عالم بين الناس يتجاوز علمه، ومن خلاله لكل البشرية، أن هناك من هو أكثر علما منه، وهو رجل بسيط لا سلطة ولا مال ولا جاه له.
والحكمة في ذلك، وجوب التواضع والحرص على المزيد من المعرفة والإقرار بكون علم الله ليس فقط أكثر من علم الخلق، بل هو العلم المطلق الجامع الذي ليس كمثله علم، والذي لا يمثل فيه علم الخلق إلا ما تمثله قطرة ماء في بحر لا شاطئ له.
ومن تم، فإن الله لم يجعل حدودا للاجتهاد والفضول في سبر أغوار كل شيء، أي شيء، فإن حدود الخلق في كسب العلم تكمن في ذاته ومن ذاته، ما دام أن علمه نسبي بنسبية إدراكه، وعلم الله مطلق من مطلقية صفاته.
2- أن الحياة البشرية لم تخلق عبثا، وأن كل شيء مهما وجدناه عابرا أو تفصيليا أو مضرا بنا أو نافعا لنا أو غير قابل للتقبل أو الإدراك، فهو ليس حتما بالشكل والمغزى الذي نتلقاه به، بل يستجيب لضوابط إما تحجبها عنا محدودية إدراكنا وعلمنا، أو لمستوى من الأسرار يتجاوزنا كبشر.
والحكمة في ذلك، هي أن الأسرار التي تتوضح لنا، هي أسرار نسبية تساير نسبية علمنا، والأسرار التي تخفى علينا هي أسرار مطلقة تساير مطلقية علم الله تعالى. ومن تم وجب التحلي بالتروي وبالنسبية في المواقف والقرارات والأحكام التي نصدرها في كل شيء، في أي شيء.
3- أن الإنسان حر في تصرفاته، مخير في قراراته، مسؤول عن أفعاله في الحياة الدنيا. لما كان السيد الخضر يطوف بالنبي موسى من مكان لآخر، كان الهدف هو أن يريه إرادة الخلق ومسؤوليته الكاملة على مسار حياته واختياراته، فرأوا الطغاة ورأوا الصالحين ورأوا الفقراء والأغنياء ورأوا الظالم والمظلوم، ورأوا سائر الناس يدبرون حياتهم اليومية دون إذن ولا توجيه من السماء. حتى إن ثنائية الأجل والرزق اللذين أقرهما الله سبحانه في سابق علمه المطلق، هي من أسراره سبحانه المطلقة التي لا سبيل للخلق أن يكشف عنها، ومن تم فهي لا تتدخل في إرادته وحريته ومسؤوليته ولا تنقص منها حبة خردل ما دام يجهلها مطلقا. وكأن بالسيد الخضر يقول للنبي موسى الذي كان لا ينقطع عن طرح أسئلة وجودية تتعلق بمدى كون الإنسان مسيرا أو مخيرا وبقضايا الرزق والأجل، أن الإنسان كامل الإرادة وكامل حرية الإختيار، ومن تم كامل المسؤولية عن أفعاله وعن تحصيل رزقه وتدبير حاله.
ولهذا، هناك أنبياء ورسالات لإبلاغ خطاب السماء، وهناك ظلم وخير في الأرض، وهناك تدافع بين الناس في الكسب والسلطة، وهناك مصالح تتقارب أو تتعارض، وهناك في الأخير حساب وعقاب بعد الموت.
وإلا فلو كان الإنسان مسيرا لما كانت رسل ولا رسالات، ولما كانت حاجة أصلا للإدراك، ولكان كل البشر يسبحون بحمد الله كالطير والشجر والحجر، ولما كان حساب ولا عقاب في الدار الآخرة، بل ولما كانت حاجة بالمرة لدار آخرة. وإلا فسيكون كل هذا من قبيل العبث والظلم وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
والحكمة في ذلك، أن الإنسان من موقع كونه مدرك دون كل المخلوقات الأخرى بدون أدنى استثناء، فهو مسؤول عن حاله ومن تم فإليه ترجع مسؤولية إصلاح حاله روحيا وماديا واجتماعيا. فلا مجال ولا منطق لتحميل أحوال الخلق للخالق الذي هو براء منا ومنها. وإن أي عدم رضى عن حال هو تقصير من البشر، تقصير من النخب، كل النخب، تقصير في استعمال كل الطاقات الإدراكية، هو فشل يتحمله الفرد والجماعات والمجتمعات، هو تقصير في النفوذ إلى كل الممكنات التي لا تحدها إلا رداءة وعمى صدور البشر.
4- أن حرية الإنسان وإرادته في تدبير شؤون حاله ومآله، لا تمنع إرادة الله المطلقة في الحياة الدنيا قبل الآخرة، التي تعبر عن ذاتها عبر أبواب ثلاثة :
أ- “الدعاء” الذي من خلاله تحل منة استجابة الله لنداء عبده من موقع قدرته سبحانه المطلقة على الفعل، ومن موقع رحمته المطلقة بعبده الداعي (“قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم”). ولكن المنة والاستجابة تكون إن شاء ومتى شاء وكيف شاء و بالشكل الذي يشاء سبحانه.
ب- “الجزاء” الذي من خلاله تحل منحة الله لعبده، كجزاء دون طلب منه لعمل ارتضاه منه أو لسلوكه العام. وهنا أيضا إن شاء سبحاه وتعالى ومتى شاء وكيف شاء وبالشكل الذي يشاء.
ج- “الإبتلاء” الذي من خلاله تحل محنة منه سبحانه بعبده دون توقع منه. وهنا كذلك إن شاء ومتى شاء وكيف شاء وبالشكل الذي يشاء سبحانه.
وهكذا فإن إرادة الله عز وجل التي تتدخل في حياة البشر، هي إما كَمِنَّةٍ على دعاء، وإما كمنحة على جزاء، وإما كمحنة على ابتلاء.
هذه في نظري المتواضع المحدود، هي الرسالة العميقة المشفرة التي أراد السيد الخضر أن يبلغها للنبي الفيلسوف موسى، والتي فيها عبرة وخطاب لكل الخلق في كل الحقب والأزمان، يمكن اختزالهما في الحرص على البساطة والتواضع، وفي الكد في تحصيل العلم والرزق والإرتقاء المتواصل للأحسن، وفي التدافع في استباق الخيرات والهرولة إلى الله، وفي اليقين المطلق في قوله تعالى : “أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ”.
شكرا للسيد الخضر كلمة الله وحكمته ونوره للعالمين.
نجيب ميكو