نجيب ميكو
علمتني الحياة أن الحديث إلى الله ومع الله ليس حكرا على أحد ولا ملكا استثنائيا أو امتيازا لأحد ولا مخولا لأحد بوراثة أو بعلم أو بصك تدين أو بوساطة من أحد. إن الارتباط بالله والإقبال على الله والمناجاة مع الله والإنتشاء بحب الله وتقوى الله هم وحدهم الذين يوصلون إلى حضرة الله.
وإن القاسمين المشتركين المتلازمين بين كل المعتقدات والسلوكات الفردية والجماعية المنبثقة عنها، التي يمارسها الناس في تواصلهم مع الله، وإن حاولت حجبها عنا كل اختلافاتها الكبيرة الظاهرة، لهما ثنائي الصلاة والمعاملات.
“الصلاة” التي هي ذاك التسبيح والتقديس والدعاء الفردي الإرادي الذي يمارسه الإنسان اتجاه خالقه. إذ إذا كان كل ما خلق الله في الكون يسبح له سبحانه عن بداهة وفطرة وتلقائية وعفوية “ولكن لا تفقهون تسبيحهم”، فإن الإنسان من دون كل مخلوقات الله، يفعل ذلك بإرادة واختيار منه.
والقاسم المشترك بين كل الناس في الصلاة بمختلف أشكالها وتعبيراتها، ليس أبدا في كونها مفروضة في زمان أو مكان بل لأنها لحظة هرولة إلى الله وخلوة مع الله يجتمع فيها الدعاء والرجاء والخوف والطمع والخضوع والتذلل والشكوى والاستغفار والطلب والحديث والسكون، في حميمية وسرية مطلقة لله وإلى الله ومع الله.
كل البشر هكذا، كل من يصلي في كل بقاع العالم على اختلاف وتعدد طرق ممارسته لصلاته هو هكذا، حتى ولو لم نكن نصلي لإله مقدس واحد. إذ كل من أراد أن يكلم الله يبادر للصلاة وكل من أراد أن يكلمه الله يبادر للصلاة.
فالصلاة هي ذاك السلم اللامادي الذي ترتقي به الروح دون وساطة ولا استئذان إلى حضرة الله في تحلل من الأنا وتذلل وتأدب وبساطة وخشوع.
أما “المعاملات” فهي سلوكات الناس في علاقاتهم فيما بينهم والتي تحضى بالنصيب الأوفر في كل المعتقدات. ومن وصفاتها الواجبة المشي هونا والإنفاق في السراء والضراء وكظم الغيض والعفو عن الناس والإحسان للناس وإماطة الأذى عن الناس وعدم ظلم الناس وعدم النبش في أعراض الناس والنأي عن السحت والمال الحرام.
وهذا ليس إلا بدل بعض من كل مواصفات المعاملات الراقية التي تحمل قيمها كل المعتقدات كتعبيرات عما يريده الخالق من سلوكات يجب أن تحكم العلاقات بين عباده حتى يأخذ بعضهم بيد بعض بتلقائية وأريحية ونكران ذات.
هذه في نظري هي مقاصد الصلاة والمعاملات كثنائي متلازم يبطل مفعول الواحد منهما دون الآخر، في طريق الاجتهاد المستمر للنفوذ إلى حضرة الله.
علما بأن الطريق إلى الحضرة الإلهية هو طريق سيار معبد لا تعتريه حفر ولا أشواك أبدا، هو طريق مشرق بالأنوار لا تلحقه ظلمة أبدا، هو طريق شاسع لا يناله إكتضاض ولا مراقبة سرعة ولا حق أسبقية أبدا، هو طريق بالمجان لا أداء مرور فيه ولا ميز ولا قرابة ولا استعطاف ولا مناورة أبدا، هو طريق مفتوح على مشراعيه للجميع على الدوام وفي كل الأوقات لا يغلق أبدا، كل يسير فيه حسب مبتغاه وعلى قدر وثيرته.
وهذا الشهر العظيم بالذات بمختلف رمزياته وحمولاته الروحية والاجتماعية لهو فرصة سنوية استثنائية لمن أراد أن يطوي المسافات في طريق الوصول إلى حضرة الله عبر الإكثار من متلازمي الصلوات وحسن المعاملات.
وإن من بلغ حضرة الله فليطلب ما يريد، كل ما يريد، دون عد ولا حد ولا رقابة ولا إقصاء إذ رحمته وسعت كل شيء وعطاؤه هو من خزائن لا تنفذ مهما كان عدد الطالب والمطلوب، وقدرته على الاستجابة هي من ذاته سبحانه وبذاته فهي مطلقة ليس كمثلها شيء ولا يستطيع إدراكها بال بشر ولا يحدها زمان أو مكان ولا يعجزها أي شيء.