التضخم الجارف الحالي نموذجا

نجيب ميكو
خبير في الدراسات الاستباقية والاستراتيجية

يمر العالم بأعمق وأفدح وأشرس الأزمات في العصر الحديث، نارها سنتان متتابعتان من جائحة كوفيد التي فرضت إيقاف الآلة الاقتصادية لأول مرة في تاريخ البشرية، ثم تلتها إعادة تحريك غير موفقة لعجلة هذه الآلة خلقت فوضى عارمة في العرض والطلب، ثم تلتها أخيرا الحرب الطاحنة في أوكرانيا بين القوى العظمى، التي تذرع بها كل طرف من هؤلاء إما بهدف الإبقاء على النظام العالمي الحالي أحادي القطب أو بهدف الانعتاق منه للإيذان بولادة قيصرية لنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب يعكس علاقات القوى الجديدة والفعلية في العالم.

إن المصائب فعلا تأتي تباعا ودفعة واحدة : وباء فجائحة ففوضى ثم حرب ترخي بظلالها على العالم بأكمله. وإن النتيجة لهذه المصائب المتوالية التي لم تعط لأي دولة ولو لحظة لتضميد الجراح السابقة واستجماع عدتها للمصاب الموالي، ارتباك وانحباس في العرض بسبب ارتفاع أسعار المواد الأولية والنقل الدولي مما نتج عنه ارتفاع غير مسبوق لكلفة الإنتاج ومن تم لأسعار بيع السلع.

إنها الوصفة السحرية المدمرة لتضخم عالمي انهال على اقتصاديات الكون بأكملها وعلى القدرة الشرائية لمجتمعاتها كالطوفان الجارف الذي جعل السحر ينقلب على السحرة أنفسهم إذ نال بقوة حتى من الدول القليلة المستفيدة الكبيرة من الارتفاعات المهولة لوسائل الإنتاج.

بلدنا المغرب عانى ويعاني وأن ويئن بشدة من كل هذه المصائب المتعاقبة التي تجمع في نفس الآن بين تقصير وشطط وفرعونية ولهث وتهافت الدول العظمى.

إن ما نجتازه اليوم من صعوبات فرضت علينا فرضا وتربك كل جهودنا من أجل فتح سبل مبتكرة نحو غد اقتصادي واجتماعي يرقى إلى طموحاتنا المشروعة، لا يمكن بأي حال أن يجعلنا حبيسي مقاربة محاسباتية تفرضها دكتاتورية ضغط الزمن الحاضر فرضا، رغم كل إكراهاته ومتطلباته وأولوياته من أجل التخفيف من معاناة اقتصادنا وشعبنا.

إن التاريخ يعلمنا أن الأزمات والشدائد الاقتصادية الكبرى هي الرحم المثالي الذي تنبت وتنضج فيه الاجتهادات الكبرى فتتولد عنها تطورات كبرى.

فعلينا أن نتسلح بنفس الأسلحة التي صنعناها من أنفسنا وبأنفسنا وذواتنا وتراصنا وكبريائنا وعزمنا وقدراتنا الفعلية لتجاوز كل التحديات، من أجل أن ننبت هنا والآن في رحمنا الجماعي، بذور طموحاتنا لمغرب ينعم بالسيادة الغذائية والطاقية واللوجستية التي هي جسورنا نحو الازدهار الاقتصادي كبديل لما نعانيه اليوم من نقص وخصاص مروعين في هذه المجالات الثلاثة التي تشكل الأسباب الأساسية للتضخم المستورد الذي يقض مضاجعنا ويثبط عزائمنا ويهدد توازناتنا الكبرى.

1- شروط ورهانات سيادتنا الطاقية

إن سيادتنا الطاقية رهينة بانضمامنا الكامل لمجلس التعاون الخليجي الذي تربط بين زعمائه وشائج عائلية عميقة، مما سيسمح لنا أن نصبح دولة بترولية بالإنتماء وأن نستفيد من أسعار تفضيلية لكل المواد الطاقية.

مثلما أن سيادتنا الطاقية ستتدعم وستكون لها قيمة مضافة إضافية وقوية من خلال إعادة فتح مصفاة لاسمير داخل رؤية وبمقاربة جديدتين يكون للبعد الإفريقي لبلدنا فيهما نصيب الأسد من خلال جعلها شركة دولية يندمج فيها الرأسمال المغربي والخليجي والإسباني والفرنسي والأمريكي ولمجموعة دول إيكوواس الإفريقية ولكل دولة يمكن أن تكون لها قيمة مضافة فعلية في هذا المشروع. وسيكون لهذه الشركة التي تستوجب التوسيع والعصرنة المستعجلين، دور تصفية وتخزين المواد الطاقية التي سيستوردها بلدنا من دول الخليج كما والمواد الطاقية لبعض دول إفريقيا الغربية التي أصبحت دولا بترولية مما سيجعلها على المدى القريب جدا، في حاجة إلى مصفاة لتثمين موادها الطاقية تجمع بين إيجابيتي القرب منها جغرافيا وتواجدها على مشارف أوربا سوقها المستهدف الطبيعي.
مثلما ستصبح هذه الشركة قطب رحى من بين أخريات للمنتجات الغازية التي ستصل لبلدنا في إطار مشروع طريق غاز المغرب-نيجيريا.

2- شروط ورهانات سيادتنا الغذائية

إن شح الأمطار الذي يعاني منه بلدنا بشكل يزداد حدة من سنة لأخرى بسبب تغير المناخ كواقع قائم لا يد لنا فيه ولا قدرة لنا على تغييره، يرهن ويربك ويعاكس كل سياساتنا الاقتصادية والتنموية ويجعل إنتاجنا الفلاحي من مواد استراتيجية مثلما ونسبة نمونا، رهينين بالمطر الذي يأتي ولا يأتي.

وإذ أنه من غير المعقول ولا المقبول أن يستمر هذا الوضع إلى ما لا نهاية ولا أن يضل بلدنا رهين استيراد خصاصه من الأسواق الدولية، فإن الضرف موات اليوم من أجل أن نثبت سيادتنا الغذائية على واجهتين استراتيجيتين مستعجلتين وملحتين :

• في إطار رؤية ومقاربة إفريقية تقوم على توسيع فضائنا الإنتاجي من القمح والحبوب الزيتية عبر اقتناء أو استئجار أراض فلاحية كافية، على المدى الطويل جدا، داخل دول إفريقية تربطنا بها علاقات أخوية واقتصادية متينة، وتتوفر على أراض فلاحية شاسعة وعلى الأمطار والمياه الكافية. وإن المجمع الشريف للفوسفاط من خلال سياساته الاستثمارية الإرادية في مجال الأسمدة داخل دول إفريقية ليؤهله لأن يكون له دور القاطرة لهذه الرؤية الجديدة.

• في إطار رؤية ومقاربة جديدتين لحاجياتنا ومواردنا المائية، تقومان على إنجاز شبكة مائية وطنية عنكبوتية ذات الأدرع الثلاثة :

• محطات شاطئية ضخمة لتحلية مياه البحر عبر كل السواحل المغربية من الشرق إلى الجنوب،

• طرق سيارة مائية مزدوجة يقوم شق منها بنقل مياه محطات تحلية ماء البحر ويقوم الشق الثاني بنقل مياه أمطار شمال وغرب المغرب وكل مناطق التساقطات المكثفة،

• محطات مائية جهوية ومحلية تقوم باستقبال مياه الطرق السيارة المائية المزدوجة كما تكون مجهزة بآليات تصفية المياه العادمة لمحيطها الحضري. وانطلاقا من هذه المحطات يتم توزيع المياه جهويا ومحليا في المدن والقرى حسب نوعيتها : إما للشرب وإما للسقي وإما للاستعمالات المنزلية والحضرية المختلفة. مع تجهيز كل منازل العالم القروي بآلات فردية معززة لتصفية مياه الآبار من أجل الشرب.

3- شروط ورهانات سيادتنا اللوجستية

إن المسكوت عنه في هذا التضخم الجارف الذي يهز الآن أركان الاقتصاد العالمي ويهدد مجتمعاته بالإضعاف المتزايد للقدرة الشرائية وعدم الاستقرار، لهو سعر النقل البحري الدولي للسلع الذي يساهم بقوة في مستوى هذا التضخم بالنظر للارتفاع المذهل لأسعاره.

والأدهى والأمر هو أن هذا الارتفاع ليس وليد لا خصاص في عدد السفن ولا ارتفاع سعر البترول بل أساسا بسبب شراهة وانتهازية مجموعة قليلة من شركات النقل البحري التي تستحود على التبادل التجاري الدولي والتي حققت في أوج الأزمة الاقتصادية التي يجتازها العالم، أرباحا تفوق الخيال والمنطق.

وهنا أيضا يجب على بلدنا أن يأخذ المبادرة الاستراتيجية الحاسمة بأن يخلق مع شركائه الاقتصاديين والسياسيين الأساسيين كدول الخليج ومصر وفرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية ودول مجموعة إيكوواس الإفريقية وكل دولة يمكن أن تساهم بقيمة مضافة قوية، شركة نقل بحرية دولية يكون مقرها الاجتماعي بالميناء الجديد لمدينة الداخلة المغربية. وسيكون الهدف الأساسي من خلق هذه الشركة هو تزويد الشركاء خاصة والدول الإفريقية بشكل أعم، بوسيلة قوية وقارة لنقل البضائع وتسهيل وتقوية التبادل التجاري فيما بينهم.

إن عالم اليوم والغد لن يكون فيه أي حض نجاح لدولة بمفردها تطمح لتحقيق أهدافها السيادية.

وإن الموقع الجغرافي لبلدنا ودوره الاستراتيجي المحوري كقطب رحى وممر لا مناص منه للتجارة الدولية وعلاقاته المتميزة والقارة داخل قارته وبيته إفريقيا ومع إخوته في دول الخليج وشركائه الاستراتيجيين داخل الاتحاد الأوربي ومع الولايات المتحدة الأمريكية بفضل جلالة الملك الشريك الوازن الحكيم ذي المصداقية العالية والضامن للاستقرار والاستمرارية، ليؤهله بل ويفرض عليه أن يفكر طموحاته واختياراته وحلوله ومقارباته داخل كل هذا المحيط والعمق الجغرافي الشاسع عوض أن يبقى حبيس رقعته الجغرافية.

إن الأزمة الاقتصادية الراهنة تفرض طبعا الانشغال بالتحديات اليومية التي تفرض المسؤولية مواجهتها ومقاربتها بحكمة وتبصر وإنصات لمعاناة الفاعلين الاقتصاديين والمواطنين، إلا أن نفس هذه الأزمة وهذا الضرف المتأزم العصيب دوليا الذي يعاني منه بلدنا كثيرا، تعتبر المناسبة التي لا تعوض من أجل أن نعمل بنفس جدية وكفاءة ومنهجية وتراص مرحلة وباء كوفيد الجارف المدمر، للوثب بعزيمة وحزم نحو رؤى ومقاربات جديدة تنهل من ثورة ملك وشعب متجددة لكسب المعارك السيادية التي أعلن عنها جلالة الملك في المجالات الاقتصادية والاجتماعية المتعددة.

أدعو الله جلت قدرته أن يخرج بلدنا من حلق هذا الضيق إلى أوسع طريق