لقد أحدثت جائحة كورونا التي حلت بالعالم وببلدنا وشعبنا، خسائر في الأرواح وزلزالا مدويا في مناخ الأعمال وشللا شبه تام في البنيات الاقتصادية لدينا.
ولعل بلدنا إن كان قد حضي في أعين العدو والصديق، بالتقدير لما أبان عنه جلالة الملك من استباق وتدبير متميزين للأزمة في شقيها الإنساني والإجتماعي من خلال توفير كل شروط ووسائل الحفاظ على حياة الناس من عدوى فتاكة، كأولوية قصوى، ومن خلال توفير كل شروط ووسائل الكرامة للأفراد والأسر في هذه الضائقة التي أتت على الأرزاق ومنابعها، فإن تحصين اقتصاد بلدنا بما يحيل إليه من حفاظ على الشغل والإنتاج والخدمات والتصدير…إلخ، التي تعد كلها قواما واجب الوجود لمجتمعنا، لا يمكن أن تتحمله خزينة الدولة لوحدها رغم كل ما اتخذته لحد الآن من تدابير قوية وهامة.
بلدنا في حاجة ملحة وعاجلة إلى مئات الملايير من الدراهم التي يجب ضخها في اقتصادنا الوطني ليس فقط لكي يصمد أمام ريح كورونا العاتية، بل لكي يعد نفسه لما بعد كورونا حتى لا يجد نفسه خارج سياق طموحات المغاربة ولا خارج الزمن الاقتصادي الدولي ولا خارج كل الفرص التي سيتيحها النظام العالمي الجديد الذي هو في طريق التشكل والذي لن يكون فيه موطئ قدم ولا امتياز السبق إلا للدول التي ستكون قد حافظت على بنياتها الاقتصادية وأعدت نفسها لهذا الموعد الجديد والحاسم مع العالم.
ولعل هذا لن يتأتى لبلدنا بواسطة الوسائل العمومية والهبات والمديونية الخارجية والداخلية لوحدهم رغم ضرورتهم الملحة. ذلك أن الوسائل المالية الذاتية لبلدنا محدودة مثلما أنه لا يمكن أن يستدين إلى ما لا نهاية بالنظر إلى عدم قدرته على تحمل مديونية تفوق طاقاته الاستردادية القصوى ولا على تحمل نسبة عجز عمومي جد مرتفعة مهما كانت ذات مضمون اقتصادي صحي، وذلك أمام كل ما يجب علينا ضخه من دعم لمقاولاتنا بمختلف أحجامها وكل ما يلزم القيام به من استثمارات لبلوغ الهدفين السالفي الذكر.
إن الأزمات مهما بلغت من تعقد وإرباك لكل الفاعلين فإن عبقريتنا الوطنية بكل تجلياتها التي أبان عنها المغاربة تحت الريادة المباشرة لجلالة الملك بشكل غير مسبوق وملفت للنظر خلال هذه الجائحة، لقادرة على ألا تكمن فقط في استباق وتدبير إكراهاتها وتداعياتها في اتجاه كبح جماحها بل أيضا في الاستفادة من الفرص الحقيقية والعديدة التي تتيحها. إننا مطالبون هنا والآن بابتكار المستقبل عوض انتظاره.
ومن أجل ذلك فإننا مطالبون بالخروج من مربع رؤيتنا النمطية للأوضاع، التي تحجب عنا انكشاف مكامن “الإيجابي” في كل شيء، حتى نحرر كل طاقاتنا الابتكارية المكبوثة فنستشرف فرصا وحلولا فيما لم نكن نرى فيه إلا الأزمات والصعوبات والحواجز المثبطة.
إن مساهمة الأشخاص الذاتيين والمعنويين الوطنيين والدوليين في إطار مقاربة مبتكرة، لرفع الضرر الاقتصادي الداهم بكل عواقبه المختلفة والمعقدة، كما وللإستفادة مما هو آت من فرص حقيقية في المقبل من الشهور والسنوات، ليشكل منحى يستحق التوقف عنده لسبر كل طاقاته النائمة.
ذلك أن إحداث “صندوق استثماري” يتم رصده للمساهمة في تمويل الاستثمارات التي ستأخذها الدولة على عاتقها دون تلك التي هي مبرمجة في قانون المالية لهذه السنة،
ليعد سبيلا استراتيجيا لبلوغ غرض مساهمة قوية ومباشرة من نوع آخر في تمويل :
إنشاء شركات عمومية جديدة في قطاعات اقتصادية صاعدة وواعدة أو تقليدية تستوجب تدخل الدولة بالنظر لبعدها الإستراتيجي ولعدم استعداد الخواص الآن للاستثمار فيها أو الرفع من طاقاتها،
تأميم شركات استراتيجية خصوصية لم يعد القطاع الخاص قادرا على تحمل استمراريتها،
الدخول في رأسمال شركات خاصة من أجل دعم استمرارها وتطورها،
إنشاء بنيات تحتية إضافية في مجالات الصحة والتعليم والتكوين والنقل العمومي،
مواكبة مشاريع ضخمة كتمويل ثورة صناعية جمعوية في العالم القروي حول المنتوجات المجالية والصناعات الغذائية التحويلية لإحداث طفرة نوعية على مستوى الإنتاج والتسويق والتصدير والدخل المنصف والعادل القمين بإعادة تشغيل مصعد الإرتقاء الاقتصادي،
تشجير ملايين الهكتارات عبر سائر المناطق الجبلية من أجل تثبيت التربة والمحافظة على البيئة وخلق ملايين أيام العمل الدائمة وإعداد صناعة احترافية للخشب،
إنشاء طرق سيارة مائية ومحطات التحلية المائية ومعالجة المياه العادمة حتى ننهي فعليا مع الجفاف وشح مياه الشرب والسقي،
إنشاء محطات مائية داخلية لتربية مختلف أنواع السمك في مختلف جهات العالم القروي،
إنشاء مراكز التربية والتكوين بمقاربة تدبيرية تتطابق مع العالم القروي وبإقصاء إيجابي لصالح التلاميذ والطلبة المتفوقين أبناء عالمنا القروي لإعادة تشغيل مصعد الإرتقاء الاجتماعي.
على أن تتميز كل هذه الشركات والمشاريع والمواكبات وغيرها بحكامتها الجيدة وبضمان مردوديتها قريبة المدى، وذلك أولا لضمان نفعيتها للبلد وثانيا لضمان ربحيتها بالنسبة للمكتتبين الوطنيين والدوليين.
ومن حسن الصدف أنه من بين الموارد الضخمة لتمويل هذا الصندوق الاستثماري في هذا الضرف بالذات وتفعيل مشاريعه على وجه السرعة هو أننا مقبلون في الأسابيع القليلة القادمة على موعد توزيع أرباح الشركات المدرجة في بورصة القيم بالدار البيضاء على المساهمين الذاتيين والمعنويين، التي تعد بعشرات ملايير الدراهم والتي يمكن للمعنيين بها ضخها في الصندوق الاستثماري المقترح بشكل إرادي طبعا.
الأمر يتعلق إذن بفرصة لكل شخص مادي أو معنوي صغير ومتوسط وكبير لكي يدخل في مشاريع تحضى بضمانة الدولة ومدرة للربح أو لدخل سنوي قار. مثلما أنها فرصة سانحة للدولة بأن تستنهض إمكانيات تمويلية وطنية ودولية ضخمة ونائمة، ليس على شكل ديون عمومية إضافية ولا على شكل هبات فقط، ولكن على شكل استثمارات لأشخاص ذاتيين ومعنويين في إطار علاقة رابح-رابح.
على أن يكون هذا “الصندوق الاستثماري” على شكل شركة مساهمة يتم تداول سنداتها في بورصة الدار البيضاء مما سيسمح للمكتتبين التمكن من بيع أو شراء سنداتها في أي وقت ولكن بشرط وامتياز عند الخروج من رأسمالها :
الشرط هو أن حامل السندات لا يحق له بيعها خلال الخمس سنوات الأولى حتى لا يكون أي خلط بين الاستثمار والمضاربة الانتهازية الآنية،
والامتياز هو أن تكون الأرباح عند بيع السندات بعد هذه المدة أو عند الإعلان عن النتيجة المالية المحصلة خلال كل سنة في حدود العشر سنوات الأولى، معفاة من الضريبة على أرباح القيم المنقولة.
ولست في حاجة هنا إلى وصف ما سيكون لإدراج هذا “الصندوق الاستثماري” من تأثير على حيوية البورصة التي هي أساسا سوق مالي لتمويل الاقتصاد والشركات.
إن أزمة كورونا هي بكل تأكيد فرصتنا التي يجب أن نغتنمها بذكاء وتمعن ودون إسراف ولا إقتار غير محسوبي العواقب، للارتقاء باقتصاد بلدنا والإستجابة للتطلعات المشروعة لشعبنا وعدم تفويت موعدنا مع الأجيال الصاعدة والقادمة.